فصل: باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب العمل في الدعاء

475- ذكر فيه مالك عن عبد الله بن دينار قال رآني عبد الله بن عمر وأنا أدعو وأشير بأصبعين أصبع من كل يد فنهاني قال أبو عمر هذا مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بسعد وهو يدعو في صلاته ويشير بأصبعيه جميعا فنهاه عن ذلك وقال أحد أحد حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال حدثنا محمد بن معاوية بن عبد الرحمن قال حدثنا أحمد بن شعيب بن محمد النسوي قال أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن سعد قال مر علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو بأصبعي فقال أحد أحد وأشار بالسبابة ورواه بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي هريرة أن رجلا كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أحد والسنة أن يشير الداعي إذا أشار بأصبعه السبابة وحدها‏.‏

476- وكذلك قول سعيد بن المسيب في هذا الباب إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده مرفوع أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرأت على أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله ليرفع العبد الدرجة فيقول يا رب أنى لي هذه الدرجة فيقول باستغفار ابنك لك‏.‏

477- وأما حديثه عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال في هذه الآية ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا‏)‏ ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

أنها نزلت في الدعاء فقد قال بقول عروة جماعة وقد روته جماعة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة منهم بن المبارك وعيسى بن يونس وفي هذه المسألة أقوال نذكرها إن شاء الله فمن ذلك ما في سماع زيد بن عبد الرحمن بن مالك أنه سمعه يقول وقد سئل عن الله تعالى ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

فقال أحسن ما سمعت في ذلك أنه عنى به أن لا يجهر بقراءته في صلاة النهار لأنها عجماء ولا يخافت بقراءته في صلاة الليل والصبح من النهار إلا أنه يجهر بها وفي هذا أيضا نص عن مالك أن الصبح من النهار وهو الحق الذي لا ريب فيه والحمد لله‏.‏

وأما الذين قالوا بقول عروة في هذه الآية أنها نزلت في الدعاء والمسألة فمنهم إبراهيم النخعي ومجاهد وقال الحسن في قوله ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ قال لا تصلها رياء ولا تتركها حياء وفي رواية أخرى عنه لا تحسن علانيتها ولا تسئ سريرتها وقال آخرون كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءته فينتفع به المسلمون ويسمعونه ويأخذونه وكان الكفار يؤذونه مخافة لأن لا يسمع أحد قراءته فنزلت ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

وممن قال ذلك قتادة وروى الأعمش عن سعيد بن جبير عن بن عباس نحو ذلك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالقرآن وكان المشركون إذا سمعوا صوتا شتموا القرآن ومن جاء به فخفض النبي صلى الله عليه وسلم صوته بذلك فأنزل الله ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

فسمى القراءة ها هنا صلاة لأنها بها تقوم الصلاة وقد روى شريك عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في قوله ‏(‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها‏)‏ قال نزلت في بسم الله الرحمن الرحيم كان المشركون إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بها هزؤوا منه وكان مسيلمة يسمى الرحمن قالوا يذكر إله اليمامة فنزلت ‏(‏ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

وقال بن سيرين كان أبو بكر الصديق ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ يخافت بالقراءة في صلاة الليل وكان عمر رضي الله عنه يجهر ويرفع صوته فنزلت هذه الآية وقال الحسن في قوله ‏(‏وابتغ بين ذلك سبيلا‏)‏ ‏[‏الإسراء 110‏]‏‏.‏

قال تكون سريرتك موافقة لعلانيتك‏.‏

وأما قول مالك لا بأس بالدعاء في الصلاة المكتوبة فهو أمر مجمع عليه إذا لم يكن الدعاء يشبه كلام الناس وأهل الحجاز يجيزون الدعاء فيها بكل ما ليس بمأثم من أمور الدين والدنيا وللكلام على المخالفين في ذلك موضع غير هذا‏.‏

478- وأما حديثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أدرت ‏(‏أردت‏)‏ في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون فليس في فعل الخيرات ما يحتاج إلى تفسير أكثر من أنها الأعمال التي يرضاها الله ويحمد فاعلها عليها ويعظم أجره وكذلك المجازات أيضا على ترك المنكرات إذا قصد بتركها رضا الله عنه وقد روي من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة والمسكين ها هنا المتواضع كله الذي لا جبروت فيه ولا كبر الهين اللين السهل القريب وليس بالسائل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كره السؤال ونهى عنه وحرمه على من يجد ما يغديه ويعشيه وقد أوضحنا ذلك في التمهيد وإنما المعنى في المسكين ها هنا المتواضع الذي لا جبروت فيه ولا نحوه ولا كبر ولا بطر ولا تجبر ولا أشر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة سوداء أبت أن تزول له عن الطريق دعوها فإنها جبارة ولقد أحسن أبو العتاهية حيث قال‏:‏

إذا أردت شريف الناس كلهم *** فانظر إلى ملك في زي مسكين

ذاك الذي عظمت في الله رغبته *** وذاك يصلح للدنيا وللدين

وقال صلى الله عليه وسلم يحشر الجبارون المتكبرون يوم القيامة في صور الذر يطأهم الناس بأقدامهم وقد تقدم سائر معنى هذا الحديث‏.‏

479- وأما حديثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من داع يدعو إلى هدى إلا كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما من داع يدعو إلى ضلالة إلا كان عليه مثل أوزارهم لا ينقض ذلك من أوزارهم شيئا فقد ذكرناه بمعناه متصلا مسندا من طرق عن النبي صلى الله عليه وسلم في التمهيد وهو يقتضي أن الإنسان يؤجر فيما كان منه من سنة صالحة ويؤزر في ضد ذلك وقال عكرمة وعطاء وغيرهما لقوله عز وجل ‏(‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏)‏ الانفطار 5 قالوا ما قدمت من خير يعمل به بعدها وما أخرت من شر يعمل به بعدها وهذا الحديث من أفضل ما روي في تعليم الخير ونشر العلم من أفضل أعمال البر وتعليم الشر في الوزر مثل ذلك وقد تأول قتادة من هذا الحديث قول الله عز وجل ‏(‏وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم‏)‏ ‏[‏العنكبوت 13‏]‏‏.‏

وتأول عطاء بن أبي رباح في مثل ذلك قول الله عز وجل ‏(‏إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب‏)‏ ‏[‏البقرة 166‏]‏‏.‏

قال تبرأ رؤساؤهم وقادتهم وسادتهم من الذي اتبعوهم‏.‏

480- وأما قول بن عمر اللهم اجعلني من أئمة المتقين فهو عندي مأخوذ من قول الله عز وجل ‏(‏واجعلنا للمتقين إماما‏)‏ ‏[‏الفرقان 74‏]‏‏.‏

وفي هذا الأسوة الحسنة أن تكون همة المؤمن تدعوه إلى أن يكون إماما في الخير وإذا كان إماما في الخير كان له أجره وأجر من عمل بما علمه وائتم به فيما علمه وأجزاه عنه حدثنا أبو القاسم خلف بن قاسم قال حدثنا أبو يوسف يعقوب بن مسدد بن يعقوب قال حدثني أبي قال حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي قال حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن مسعود في قوله ‏(‏علمت نفس ما قدمت وأخرت‏)‏ الانفطار 5 قال ما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعده فله مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء وما أخرت من سنة سيئة يعمل بها من بعده فإن عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء‏.‏

وأما دعاء بن عمر أن يجعله الله من أئمة المتقين فإن معلم الخير يستغفر له حتى الحوت في البحر وقد أوضحنا هذا المعنى في كتاب بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله والحمد لله‏.‏

481- وليس في قول أبي الدرداء حين قيامه في جوف الليل الليل نامت العيون وغارت النجوم وأنت الحي القيوم أكثر من اعتباره في خلق الله عز وجل وتعظيم الله بما هو أهله وأنه الذي لا تدركه سنة ولا نوم ولا تغير ولا تحول كما تصنع النجوم التي تسير مسيرها وتعود عودها فتكون مرة بادية ظاهرة ومرة غائبة غائرة مسخرة لما خلقت له وخالقها الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم الدائم والقائم على كل نفس بما كسبت لا إله إلا هو رب السماوات السبع ورب العرش العظيم وهو حسبي ونعم الوكيل بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

كتاب الجنائز

باب غسل الميت

482- مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل في قميص قد ذكرنا في التمهيد من روى هذا الحديث مسندا من رواية مالك وغيره ولم يسنده في الموطأ عن مالك إلا سعيد بن عفير رواه عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة ورواه الوحاظي وإسحاق بن عيسى في غير الموطأ عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وهو عن عائشة أصح ورواه محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة وذكر عبد الرزاق عن بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه قال غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قميص وكفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة وصلي عليه بغير إمام وروى عبد الرزاق أيضا عن بن جريج قال سمعت محمد بن علي بن حسين أبا جعفر يقول بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب قيل ما هن قال قد اختلفوا فيهن منهن قميص قلت وعمامة قال لا ثوبين سوى القميص قال عبد الرزاق وهو القميص الذي غسل فيه قال أبو عمر روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في برد حبرة وربطتين وروي أنه كفن في برد أحمر وقيل برد أسود وغير ذلك مما جاء في أحاديث ليس منها شيء يحتج به من وجه انقطاعها وضعف أسانيد أكثرها وأصح شيء فيما كفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث عروة عن عائشة قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وسنوضح ذلك في باب الكفن إن شاء الله قال أبو عمر السنة المجتمع عليها تحريم النظر إلى عورة الحي والميت وحرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا ولا يجوز لأحد أن يغسل ميتا إلا وعليه ما يستره فإن غسل في قميص فحسن وستره كله حسن وأقل ما يلزم من الستر له ستر عورته ومن السنة المجتمع عليها أن لا يفضي الغاسل إلى فرج الميت إلا وعليه خرقة وسيأتي وصف غسل الميت في حديث أم عطية بعد هذا إن شاء الله وقد زعم بعض أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزع عنه ذلك القميص الذي غسل فيه وأنه كفن فيه مع الثلاثة الأثواب واحتج بالحديث المأثور في ذلك أنهم نودوا ألا ينزعوا القميص وهذا يعارضه ما هو أثبت منه من جهة النقل وهو حديث عائشة قالت كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وهذا ينفي أن يكون في أثوابه قميص وتوجيه الحديثين عندي أي لا تنزعوا القميص حتى تغسلوه فيه وكذلك جاء الحديث أنه غسل في قميصه صلى الله عليه وسلم فاقتصر في هذا الحديث على ذكر الغسل خاصة مع حديث عائشة ‏(‏ليس فيها قميص‏)‏ يعني في أكفانه وقد سأل أبو أحمد الموفق إسماعيل بن إسحاق القاضي ما الذي صح عندكم في كفن النبي صلى الله عليه وسلم فإن عبد العزيز الهاشمي يقول إنه كفن في خمسة أثواب منها قميص وعمامة فقال إسماعيل الذي صح عندنا انه كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة وقد روى يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة بحرانية وهذا الحديث انفرد به يزيد بن أبي زياد وليس ممن يحتج به إذا عارضه من هو أثبت منه لضعفه وحديث عائشة ثابت من جهة الإسناد ومعلوم أن الثوب الذي يغسل فيه الميت ليس من أكفانه وثياب الكفن غير مبلولة وبالله التوفيق‏.‏

483- مالك عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية أنها قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور فإذا فرغتن فآذنني قالت فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة فقال أشعرنها إياه قال مالك تعني بحقوة إزاره قال أبو عمر لم يذكر مالك في حديثه هذا من كانت المتوفاة التي غسلتها أم عطية في هذا الحديث من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر بن عيينة وغيره عن أيوب في هذا الحديث أنها زينب ابنته وذكر أيضا هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية وذلك مذكور في التمهيد وكل الرواة لهذا الحديث عن مالك قالوا فيه بعد قوله أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك وسقط ليحيى بن يحيى إن رأيتن ذلك وهو مما عد من سقطه وفي هذه اللفظة من الفقه رد عدد الغسلات إلى اجتهاد الغاسل على حسب ما يرى بعد الثلاث من بلوغ الوتر فيها والله أعلم‏.‏

وأما ابنته ‏(‏عليه الصلاة والسلام‏)‏ التي شهدت أم عطية الأنصارية غسلها فهي زينب عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغسليها ثلاثا أو خمسا وذكر الحديث وقال بعض أهل السير هي أم كلثوم والله أعلم قال أبو عمر وكل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم توفين في حياته إلا فاطمة فإنها توفيت بعده بستة أشهر وقيل بثمانية أشهر ولم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة ابنته رقية لأنه كان ببدر وقد ذكرنا أخبارهن في النساء من كتاب الصحابة ولست أعلم في غسل الميت حديثا جعله العلماء أصلا في ذلك إلا حديث أم عطية الأنصارية هذا فعليه عدلوا في غسل الموتى وقد روى أيوب وغيره عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية في هذا الحديث فقالوا فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر ومن ذلك إن رأيتن ذلك ولا يحفظ ذكر السبع في حديث أم عطية إلا من حديث حفصة بنت سيرين عنها وكان أيوب السختياني قد روى هذا الحديث عن أم عطية وعن حفصة بنت سيرين عن أم عطية فكان يروي عن كل واحد منهما حديثه على وجهه وكان حافظا وكان ممن يرويه أيضا عن حفصة عن أم عطية في هذا الحديث قولها ومشطنا رأسها ثلاثة قرون ليس ذلك في حديث محمد بن سيرين عن أم عطية إلا أنه كان يروي هذه الألفاظ خاصة عن أخته حفصة عن أم عطية ويروي عن أم عطية سائر الحديث كما رواه مالك وغيره عن أيوب عن محمد عن أم عطية وقد ذكرنا الآثار بذلك كله عن بن سيرين عن أخته حفصة بنت سيرين في التمهيد وقد روى قتادة عن أنس أنه كان يأخذ غسل الميت عن أم عطية قالت غسلنا ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نغسلها بالسدر ثلاثا فإن أنجت وإلا فخمسا وإلا فأكثر من ذلك قالت فرأينا أكثر من ذلك سبع واختلف العلماء في البلوغ بغسل الميت إلى سبع غسلات فقال منهم قائلون أقصى ما يغسل الميت ثلاث غسلات فإن خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة غسل ذلك الموضع وحده ولم يعد غسله وممن قال بهذا أبو حنيفة وأصحابه والثوري وإليه ذهب المزني وأكثر أصحاب مالك ومنهم من قال يوضأ إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة ولا يعاد غسله لأن حكمه حكم الجنب إذا اغتسل ثم أحدث بعد الغسل قالوا ويغسل مخرجه من ذلك الحدث بالماء ثم يوضأ وتجزئ الأحجار في ذلك وقال بن القاسم إن وضئ من الحدث فحسن وإنما هو الغسل قال أبو عمر لأنها عبادة عن الحي فقد أداها وليس على الميت عبادة فتحصيل مذهب مالك أنه إذا جاء منه حدث بعد كمال غسله أعيد وضوؤه للصلاة ولم يعد غسله‏.‏

وقال الشافعي إذا خرج منه شيء بعد الغسلة الثالثة أعيد غسله‏.‏

وقال أحمد بن حنبل يعاد غسله إذا خرج منه شيء إلى سبع غسلات ولا يزاد على سبع فإن خرج منه شيء بعد السابعة غسل الموضع وحده فإن خرج منه شيء بعد ما كفن دفع ولم يلتفت إلى ذلك وهو قول إسحاق وكل قول من هذه الأقاويل قد روي عن جماعة من التابعين على ما ذكرنا عنهم بالأسانيد في كتاب التمهيد ووضعنا هناك في غسل الميت وجوها ذكرناها عن العلماء ومن أراد الوقوف على ذلك تأمله هناك والقول عندي في غسل الميت أنه تطهير عبادة لا إزالة نجاسة وإنما غسله كالجنب وكان إبراهيم النخعي لا يرى الكافور في الغسلة الثالثة ولا يغسل الميت عنده أكثر من ثلاث ليس في شيء منها كافور وإنما الكافور عنده في الحنوط إلا في شيء من الماء وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وأصحابه ولا معنى لقولهم لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للنساء اللاتي غسلن ابنته واجعلن في الآخرة كافورا وعلى هذا أكثر العلماء أن يغسل الميت الغسلة الأولى بالماء القراح والثانية بالماء والسدر والثالثة بماء فيه كافور ومنهم من يجعل الأولى بالماء والسدر والثانية بالماء القراح والثالثة بالماء والكافور ومنهم من يذهب إلى أن الغسلات الثلاث كلها بالسدر ورووا في ذلك حديثا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل ثلاث غسلات كلهن بالماء والسدر وقد روى قتادة عن محمد بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية فيغسل بالماء والسدر مرتين والثالثة بالماء والسدر والكافور وذكره أبو داود عن هدبة بن خالد عن همام عن قتادة عن بن سيرين أنه كان يأخذ الغسل عن أم عطية وقال أبو بكر الأثرم قلت لأحمد بن حنبل أتذهب إلى السدر في الغسلات كلها قال نعم السدر فيها كلها على حديث أم عطية اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر قال في حديث بن عباس بماء وسدر ثم قال ليس في حديث غسل الميت أرفع من حديث أم عطية ولا أحسن منه فيه ثلاثا أو خمسا أو سبعا وابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها ثم قال ما أحسنه قال أبو عمر يقال إن أعلم التابعين بغسل الميت بن سيرين ثم أيوب بعده وكلاهما كان غاسلا للموتى يتولى ذلك بنفسه ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن بن سيرين في غسل الميت قال توضع خرقة على فرجه وأخرى على وجهه فإذا أراد أن يوضئه كشف الخرقة عن وجهه فيوضئه بالماء وضوءه للصلاة ثم يغسله بالماء والسدر مرتين من رأسه إلى قدميه يبدأ بميامنه ولا يكشف الخرقة عن فرجه ولكن يلف على يده خرقة إذا أراد أن يغسل فرجه ويغسل ما تحت الخرقة التي على فرجه بالماء إذا غسله مرتين بالماء والسدر غسله المرة الثانية بماء فيه كافور قال والمرأة والرجل في ذلك سواء فإذا فرغ الغاسل اغتسل إن شاء أو توضأ وعبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال يغسل الميت ثلاثا أو خمسا أو سبعا بماء وسدر والواحدة السابغة تجزئ وقال الأثرم قلت لأحمد بن حنبل يغطى وجه الميت قال لا إنما يغطى من سرته إلى ركبتيه قال أبو عمر أجمع العلماء على أن النظر إلى فرج الحي والميت يحرم ولا يجوز وكذلك مباشرته باليد من غير من أحل الله مباشرته من الزوجين وملك اليمين للرجل إلا ما كان من الأطفال الذين لا إرب فيهم ولا شهوة تتعلق بهم وقد روي معنى الإجماع الذي ذكرنا من أخبار الآحاد العدول منها حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لا تنظر إلى فرج حي ولا ميت‏.‏

وأما تغطية وجه الميت قبل الغسل وفي حين الغسل بخرقة فلأن الميت ربما تغير وجهه بالسواد ونحوه وذلك لداء أو لغلبة دم فينظر الجهال إليه فينكرونه ويتأولون فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من غسل ميتا ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏.‏

وأما قوله في حديث أم عطية في هذا الباب فأعطانا حقوه وقال أشعرنها إياه فالحقو الإزار وقيل المئزر قال منقذ بن خالد الهذلي‏:‏

شعر‏)‏ ‏(‏مكبلة قد خرق الردف حقوها *** وأخرى عليها حقوها لم يخرق

والحقو في لغة هذيل مكسور الحاء وغيرهم يقولون حقو بالفتح وجمعه حقي وأحقاء وأحق‏.‏

وأما قوله أشعرنها إياه فإنه أراد اجعلنه يلي جسدها في أكفانها ومنه الحديث عن عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا ولا في لحفنا ومنه قوله عليه السلام الأنصار شعار والناس دثار وقال بن وهب في قوله أشعرنها إياه يجعل الإزار شبه المئزر ويفضي به إلى جلدها وقال بن جريج قلت لعطاء ما معنى أشعرنها إياه أتؤزر قال لا أراه إلا قال الففنها فيه وكذلك كان بن سيرين يأمر بالمرأة أن تشعر لفافة ولا تؤزر وقال إبراهيم النخعي الحقو فوق الدرع وقد خالفه الحسن وبن سيرين والناس فجعلوا الحقو يلي أسفلها مباشرا لها وقال بن علية الحقو هو النطاق الذي تنطق به الميتة وهو سبنية طويلة يجمع بها فخذاها تحصينا أن يخرج منها شيء بعد أن يحشى أسفلها بكرسف ثم يلف النطاق على عجزها إلى قرب من ركبتيها قال وهو أحد الخمسة الأثواب التي تكفن فيها المرأة وقال عيسى بن دينار يلف ذلك على عجزها وفخذيها حتى يستوي ذلك منها بسائر جسدها ثم تدرج في اللفافتين كما يدرج الرجل قال ولو لم يكن إلا ثوب واحد كان الخمار أولى من المئزر لأنها تصلي في الدرع والخمار ولا تصلي في الدرع والمئزر وقد استدل قوم من هذا الحديث بأن غسل النساء للمرأة أولى من غسل زوجها لها وقال الحسن البصري إذا لم يجد امرأة مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية غسلها زوجها وابنها وخالفهم آخرون فقالوا غسل الزوج أولى من غسل النساء لأن أبا بكر الصديق ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ أوصى بأن تغسله زوجه أسماء وكذلك فاطمة أوصت بأن يغسلها بعلها علي فغسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر وغسل علي فاطمة ومعلوم أن الزوجين يحل لكل واحد منهما من النظر من صاحبه والمباشرة ما لا يجوز لغيرهما‏.‏

484- وأما حديث مالك في هذا الباب عن عبد الله بن أبي بكر أن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر الصديق حين توفي ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين فقالت إني صائمة وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل فقالوا لا قال أبو عمر هذا إجماع من العلماء مأخوذ عن إجماع السلف من الصحابة على ما في هذا الحديث من المهاجرين والأنصار من إجازات غسل المرأة زوجها من غير نكير عن أحد منهم وكذلك روينا عن أبي موسى الأشعري أنه غسلته امرأته ولم يختلف الفقهاء في جواز غسل المرأة لزوجها واختلفوا في جواز غسل الرجل امرأته فقال أكثرهم جائز أن يغسل الرجل امرأته كما جاز أن تغسله فمن قال بذلك منهم مالك والليث وبن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وهو قول حماد بن أبي سليمان واختلف فيه عن الأوزاعي روي عنه لا يغسلها وروي عنه يغسلها وحجتهم أن عليا غسل فاطمة ‏(‏رضي الله عنهما‏)‏ وقياسا على غسل المرأة زوجها لأنهما زوجان‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وروى ذلك عن الشعبي تغسله ولا يغسلها لأنه ليس في عدة منها وهذا لا حجة فيه لأنها في حكم فيه الزوجية ليس في عدة منها بدليل الموارثة لا في حكم المبتوتة واعتل الثوري وأبو حنيفة بأن لزوجها أن يتزوج أختها فلذلك لا يغسلها وهذا لا ينتقض عليهم بغسلها له وأجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها إن مات في عدتها واختلفوا في الرجعة قد روى بن نافع عن مالك أنه يغسلها وأنها تغسله إن كان الطلاق رجعيا وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وقال بن القاسم لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا قال وهو قياس من قول مالك لأنه ليس له أن يراها عنده وهو قول الشافعي‏.‏

وأما قوله في حديث أسماء بنت عميس أنها سألت من حضرها من المهاجرين والأنصار هل عليها من غسل حين غسلت زوجها فقالوا لا فإن هذا موضع اختلف فيه الفقهاء فقال منهم قائلون كل من غسل ميتا فعليه الغسل قالوا وإنما أسقط المهاجرون والأنصار - الذين حضروا غسل أسماء لزوجها - الغسل عنها لما ذكرت لهم لأن إنما هي صائمة وأنه يوم شديد البرد واحتج من رأى الغسل على من غسل الميت بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ واختلف قول مالك في ذلك فذكر العتبي عن بن القاسم قال قال مالك أرى على من غسل ميتا أن يغتسل قال بن القاسم ولم أره يأخذ بحديث أسماء بنت عميس ويقول لم أدرك الناس إلا على الغسل قال بن القاسم وهو أحب ما فيه إلي وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال يغتسل من غسل الميت أحب إلينا وقال بن وضاح سمعت سحنون يقول يغتسل من غسل الميت إذا فرغ منه وهو العمل عندنا وروى أهل المدينة عن مالك أنه لا غسل على من غسل ميتا وإن اغتسل فحسن‏.‏

وقال الشافعي لا غسل على من غسل ميتا إلا أن يثبت حديث أبي هريرة أو غيره في ذلك وذكر المزني أن عبد الله بن وهب أخبره عن مالك أنه كان يرى الغسل على من غسل الميت‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه غسل على من غسل ميتا واختلف الصحابة في ذلك أيضا روي عن علي ‏(‏ رضي الله عنه‏)‏ أنه كان يأمر بالغسل من غسل الميت وروي عن بن مسعود وسعيد بن المسيب وبن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين أنه لا غسل على من غسل الميت‏.‏

وأما حديث أبي هريرة فروي من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ودون العلاء زهير بن محمد وليس بحجة ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ومن أصحاب سهيل من يرويه عن سهيل عن أبيه عن إسحاق مولى زائدة عن أبي هريرة ورواه بن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة كلهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ‏.‏

وأما حديث مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بالغسل من الحجامة والجنابة وغسل الميت ويوم عرفة فمما لا يحتج به ولا يقوم عليه وقد روى شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة قالت سألت عائشة أيغتسل من غسل الميت قالت لا فدل على بطلان حديث مصعب بن شيبة لأنه لو صح عنها ما خالفته ومن جهة النظر والاعتبار لا تجب طهارة على من لم يوجبها الله عليه في كتابه ولا أوجبها رسوله من وجه يشهد به عليه ولا اتفق العلماء على إيجابها والوضوء المجتمع عليه لا يجب أن يقضى إلا من هذه الوجوه أو أحدها وبالله التوفيق‏.‏

وأما قول مالك في هذا الباب أنه سمع أهل العلم يقولون إذا ماتت المرأة وليس معها نساء يغسلنها ولا من ذوي المحرم أحد يلي ذلك منها ولا زوج يلي ذلك منها يممت فمسح بوجهها وكفيها من الصعيد قال مالك وإذا هلك الرجل وليس معه أحد إلا نساء يممنه أيضا فليس فيما حكاه بين العلماء خلاف إلا في هل يغسل المرأة إذا ماتت ذو المحرم منها أم لا فإن هذا موضع اختلفوا فيه فقال مالك في المدونة وفي العتبية من رواية سحنون وعيسى عن بن القاسم ومن سماع أشهب أنه أيضا جائز أن يغسل المرأة ذو محرم منها من فوق الثوب إذا لم يكن نساء وكذلك الرجل تغسله ذات المحرم منه إذا لم يكن رجال وتستره وذكر محمد بن سحنون عن أشهب أنه لا يغسل ذو المحارم بعضهم بعضا ولكن ييممون وذكر بن عبد الحكم عن مالك معنى ما ذكره في موطئه إلا أنه كان لا يجاوز بالنساء إذا يممهن الرجال الكفين ويبلغ النساء بتيمم الرجال إلى المرفقين فإن كن ذوات محارم فلا بأس أن يغسلن الرجل ما لم يطلع على عورته ويغسل الرجل ذات المحرم منه في درعها ولا يطلع على عورتها وقول الأوزاعي في هذا الباب كله قول مالك وقول أبي حنيفة وأصحابه كقول أشهب إلا أن الأوزاعي قال إذا لم يكن مع الرجل ولا المرأة إلا أجنبي دفن كل واحد منهما بغير غسل ولا تيمم قال أبو حنيفة وأصحابه ييمم ذو المحرم المرأة بيده وييممها الأجنبي من وراء الثوب قالوا والرجل تيممه المرأة ذات المحرم منه بغير ثوب والأجنبية تيممه من وراء الثوب وهذا إذا لم تحضر المرأة نساء ولا الرجل رجال في السفر ونحوه قالوا والأمة تيمم كما ييمم الرجل وقال الثوري إذا لم يكن مع المرأة إلا الرجال ولا مع الرجل إلا النساء يممت المرأة الرجل والرجل المرأة ولم يفرق بين ذي المحرم وغيره ولكن من وراء الثوب وهو قول الشافعي وقال الليث إذا لم يكن مع الرجل إلا النساء ولا مع المرأة إلا الرجال فإن كل واحد منهما يلف في ثيابه ويصلى عليه ولا يغسل ولا ييمم وقال الليث أيضا إن توفي رجل مع رجال ولا ماء معهم دفن كما هو ولم ييمم قال أبو عمر القياس أن يكون الصعيد طهورا للميت عند عدم الماء كما كان طهورا للحي والوجه والكفان لا يجوز للمرأة ستر ذلك في الصلاة فجائز أن ييمم ذلك منها بعد الموت‏.‏

باب ما جاء في كفن الميت

485- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة هذا أثبت ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفن الميت من جهة النقل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في برد حبرة وروي أنه كفن في ربطتين وبرد نجراني ذكر عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن بن شهاب الزهري عن علي بن حسين قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب برد حبرة قال عبد الرزاق وهو المجتمع عليه وبه نأخذ قال‏.‏

وأخبرنا معمر عن قتادة عن بن المسيب قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ريطتين وبرد وليس في شيء من تلك الآثار ما يعارض به حديث عائشة لثبوته وضعف أسانيد ما سواه وقد ذكر لعائشة قولهم كفن في ثوبين وبرد حبرة فقالت قد أتى بالبرد ولكن ردوه ولم يكفنوه فيه ذكر ذلك حفص بن غياث وغيره عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وذكر حماد بن سلمة في هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وكان عبد الله بن أبي بكر الصديق ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ قد أعطاهم حلة حبرة فأدرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ثم استخرجوه منها فهذه كلها آثار ثابتة عن عائشة ترد حديث يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلة له نجرانية وحديث الثوري عن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن بن عباس قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين وبرد أحمر وما ذكر أبو حاتم الرازي قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا وهيب - يعني بن خالد - قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان في وصيته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب في صحاريين وبرد فكفنوني في ثلاثة أثواب قال أبو عمر كان علي ‏(‏رضي الله عنه‏)‏ غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفنه ومعه الفضل بن عباس وأبوه عباس وهم أعلم بذلك والله أعلم وقد اتفقت عائشة معهم على أن لا قميص في كفنه وإن قولها في هذا الحديث بيض سحولية وقد روي عنها من وجوه في حديث هشام بن عروة وغيره أنها من كرسف ‏(‏وهو القطن‏)‏‏.‏

وأما السحولية فهي البيض قال المسيب بن علس ‏(‏في الآل يخفضها ويرفعها ريع يلوح كأنه سحل والسحل الثوب الأبيض‏)‏ شبه الطريق به وقد قيل إن سحول قرية باليمن تصنع فيها ثياب القطن وتنسب إليها وقد روى بن عيينة وغيره في هذا الحديث عن هشام بن عروة وغيره عن أبيه عن عائشة فقال فيه ثلاثة أثواب سحولية لم يقل بيض فإذا كان السحل الأبيض استغني عن ذكر البيض‏.‏

وأما الفقهاء فأكثرهم يستحبون في الكفن ما في هذا الحديث وكلهم لا يرون في الكفن شيئا واجبا ولا يتعدى وما ستر العورة أجزأ عندهم من الحي والميت‏.‏

وأما ما يستحبونه من الكفن فقال مالك ‏(‏رحمه الله‏)‏ ليس في كفن الميت حد ويستحب الوتر وفي رواية أخرى عنه أحب إلي أن يكون كفن الرجل في ثلاثة أثواب ولا أحب أن يكون في أقل من ثلاثة أثواب فإن كفن في ثوبين فلا بأس قد كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء اثنين في ثوب قال ولا بأس بالقميص في الكفن ويكفن معه بثوبين فوقه‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب والسنة فيها خمسة أثواب وأدنى ما يكفن فيه الرجل ثوبان والسنة في ثلاثة أثواب وقال الأوزاعي والثوري يكفن الرجل في ثلاثة أثواب وتكفن المرأة في خمسة أثواب وهو آخر قول الشافعي وقول أحمد وإسحاق وأبي ثور وروي عن الشافعي أنه قال أحب إلي أن لا يتجاوز في كفن المرأة خمسة أثواب والثوب الواحد يجزئ واستحب بن علية القميص في الكفن وهو قول مالك وزعم أصحابه أن العمامة عندهم في كفن الميت معروفة بالمدينة وكذلك الخمار للمرأة واستحبوا أن يقمص الميت وكان بن عمر يعمم الميت وكان جابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح لا يعممان وكفن بن عمر ابنه واقدا في خمسة أثواب قميص وثلاث لفائف وعمامة وروى مالك عن بن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال الميت يقمص ويؤزر ويلف في الثوب الثالث فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه‏.‏

وأما الشافعي فقال أحب الكفن إلي ثلاثة أثواب بيض ليس فيها عمامة ولا قميص فإن ذلك الذي اختاره الله ‏(‏عز وجل‏)‏ لنبيه صلى الله عليه وسلم واختاره له أصحابه ‏(‏رضي الله عنهم‏)‏ قال أبو عمر قوله صلى الله عليه وسلم خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم أولى ما صير إليه في هذا الباب والله الموفق للصواب وقد أجمعوا أن لا تخاط اللفائف فدل على أن القميص ليس مما يختار لأنه مخيط ولا حرج في شيء مما استحبوه وإن كانوا قد اختلفوا فيه وبالله التوفيق‏.‏

486- مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني أن أبا بكر الصديق قال لعائشة وهو مريض في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية فقال أبو بكر خذوا هذا الثوب ‏(‏لثوب عليه قد أصابه مشق ‏(‏1‏)‏ أو زعفران‏)‏ فاغسلوه ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين فقالت عائشة وما هذا فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هو للمهلة وروى سفيان عن هشام عن عروة عن عائشة أن أبا بكر سألها في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت في ثلاثة أثواب سحولية قال فكفنوني في ثلاثة أثواب قال سفيان‏.‏

وأخبرنا عمرو بن دينار عن عبد الله بن أبي مليكة أن أبا بكر الصديق قال لعائشة اغسلوا ثوبي هذين ‏(‏وكانا مشقين‏)‏ فكفنوني فيهما وابتاعوا لي ثوبا ولا يغلو عليكم فقالت عائشة إنا موسرون فقال يا بنية الحي أحق بالجديد من الميت وإنما هو للمهل والصديد وأوصى أسماء وكانت صائمة أن تفطر في هذا الحديث من الفقه ما لم يتقدم في الحديث الذي قبله سؤال العالم كل من كان عنده علم غاب عنه أو نسيه كان مثله في العلم أو دونه وهذا الخبر يدل على ما أجمعوا عليه من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يل غسله وتكفينه إلا أهله والعباس وعلي والفضل بن عباس ولكن ذلك كان في بيت عائشة فلم تجهل ذلك ولذلك سألها أبوها أبو بكر - رضي الله عنهما - عن ذلك وفيه الكفن في ثلاثة أثواب وذلك استحباب لا استيجاب وفيه غسل ثياب الأكفان وتنظيفها وفيه أنه لا بأس بالكفن البالي وأنه والجديد في الفضل سواء وفيه التأديب للبنين وتعليمهم ما يحيطون به دينهم وأموالهم وكذلك قال لهم الحي أحوج إلى الجديد من الميت وهو من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن النبي -عليه السلام- أنه قال لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سريعا وإلى هذا ذهب أبو بكر والله أعلم وليس في هذا كله دفع لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ولا ما يعارضه لأنه يحتمل حديث جابر هذا هيئة التكفين بدليل قوله إن الله عز وجل يحب من عبده إذا عمل عملا أن يتقنه ويحسنه على أن من كفن أخاه في ثوب نقي أبيض أو ثياب بيض فقد أحسن والبالي والجديد في ذلك سواء والله أعلم‏.‏

وأما قوله كفنوني في ثوبين مع ثوبي هذا فإنه أراد أن يكون كفنه وترا وهي السنة قال إبراهيم النخعي غسل الميت وتر وكفنه وتر وتجميره وتر وقوله فإنما هو للمهلة فإنه أراد الصديد ولا وجه لكسر الميم في المهلة غير ذلك وبضم الميم شبه الصديد بعكر الزيت وهو المهل والمهلة والرواية بكسر الميم وقال عيسى بن دينار لا ينبغي لمن لم يجد أن ينقص الميت من ثلاثة أثواب يدرج فيها إدراجا لا يجعل له إزار ولا سراويل ولا عمامة ولكن يدرج كما أدرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينبغي أن يزاد الرجل على ثلاثة أثواب كذلك ينبغي لمن يجد أن لا ينقص المرأة عن خمسة أثواب درع وخمار وثلاث لفائف يخمر رأسها بالخمار‏.‏

وأما الدرع فيفتح في وسطه ثم تلبسه ولا يخاط من جوانبه وأحد اللفائف يلف على حجزتها وفخذيها حتى يستوي ذلك منها بسائر جسدها ثم تدرج في اللفافتين الباقيتين كما يدرج الرجل قال عيسى والكفن من رأس المال يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب من رأس مال الميت تكون وسطا قال أبو عمر قول عيسى في هذا الباب كله حسن وجمهور الفقهاء على أن الكفن من رأس المال ومن قال إنه من الثلث فليس بشيء لأن مصعب بن عمير لم يترك إلا نمرة قصيرة كفنه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلتفت إلى غريم ولا وارث وقد أجمع العلماء على كراهية الخز والحرير للرجال في الكفن ومنهم من كرهه للرجال والنساء في الكفن خاصة وأجمعوا على انه لا يكفن في ثوب يصف والمصبوغ كله غيره أفضل منه وبعد هذا فما كفن فيه الميت مما يستر عورته ويواريه أجزأه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

باب المشي أمام الجنازة

487- مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة لم يختلف أصحاب مالك في إرسال هذا الحديث عنه عن بن شهاب ولم يختلف أصحاب بن عيينة عليه في توصيله مسندا رووه عنه عن الزهري عن سالم عن أبيه وقد تابعه بن أخي الزهري وغيره واختلف فيه سائر أصحاب بن شهاب على ما ذكرناه في التمهيد والحمد لله وأردف مالك هذا الحديث بحديثه عن محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه أخبره أنه رأى عمر بن الخطاب يقدم الناس أمام الجنازة في جنازة زينب بنت جحش وعن هشام بن عروة أنه قال ما رأيت أبي قط في جنازة إلا أمامها قال ثم يأتي البقيع فيجلس حتى يمروا عليه وعن بن شهاب أنه قال المشي خلف الجنازة من خطإ السنة فأورد مالك في هذا الباب السنة وعمل الخلفاء بذلك ومن بعدهم واشتهار ذلك بالمدينة عندهم حتى جعله بن شهاب مع علمه بآثار من مضى سنة مسنونة وجعل ما خالفها خطأ وهذا كله خلاف ما ذهب إليه أهل العراق من الكوفيين وغيرهم فأجازوا المشي خلفها وعن يمينها وعن يسارها‏.‏

وأمامها واختلف العلماء في الأفضل من ذلك فقال مالك بن أنس والليث بن سعد والشافعي وأصحابهم السنة المشي أمام الجنازة وهو الأفضل وبه قال أحمد بن حنبل وقال الثوري لا بأس بالمشي بين يديها وخلفها وعن يمينها وشمالها إلا أن المشي عندهم خلفها أفضل وحجة هؤلاء ومن قال بقولهم حديث علي من رواية عبد الرحمن بن أبزى قال كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها فقلت له في ذلك فقال إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة وإنهما ليعلمان ذلك ولكنهما يسهلان على الناس وقد ذكرنا إسناده في التمهيد من حديث عبد الرزاق وغيره عن الثوري قال عبد الرزاق وبه يأخذ الثوري وروى أبو سعيد الخدري عن علي مثله بمعناه وزاد قال لي علي يا أبا سعيد إذا شهدت جنازة فقدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة ومن حديث بن مسعود أنه كان يقول سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السير بالجنازة فقال الجنازة متبوعة وليست بتابعة وليس معها من تقدمها ومن حديث المغيرة بن شعبة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها‏.‏

وأمامها وعن يمينها ويسارها قريبا منها ومن حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال امشوا خلف الجنازة فهذا ما جاء من الآثار المرفوعة في هذا الباب وهي كلها أحاديث كوفية لا تقوم بأسانيدها حجة وقد ذكرناها بأسانيدها وعللها في التمهيد وروي عن أنس بن مالك ومعاوية بن قرة وسعيد بن جبير أنهم كانوا يمشون خلف الجنازة وروي عن نافع مولى بن عمر أنه قال قلت لابن عمر كيف المشي في الجنازة فقال أما تراني أمشي خلفها فهذا يعارضه حديث بن شهاب المذكور في هذا الباب وحديث أهل المدينة أثبت والله أعلم‏.‏

وأما الصحابة - رضي الله عنهم - فروي عن عثمان وطلحة والزبير وبن عباس وأبي هريرة والحسن بن علي وبن الزبير وأبي أسيد الساعدي وأبي قتادة الأنصاري أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة وروى بن وهب عن يحيى بن أيوب عن يعقوب بن إبراهيم عن محمد بن المنكدر قال ما رأيت أحدا ممن أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهم يمشون أمام الجنازة حتى أن بعضهم لينادي بعضا ليرجع إليهم ذكر بن المبارك عن موسى الجهني قال سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المشي بين يدي الجنازة فقال كنا نمشي بين يدي الجنازة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يرون بذلك بأسا‏.‏

وأما التابعون فروي عن السائب بن يزيد وعبيد بن عمير وشريح القاضي والأسود بن يزيد وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وسائر الفقهاء السبعة المدنيين وبشر بن سعيد وعطاء بن يسار وبن شهاب وربيعة وأبي الزناد أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة وذكر هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال لأبي وائل أكان أصحابك يمشون أمام الجنازة قال نعم قال أبو عمر المشي أمام الجنازة أكثر عن العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين وهو مذهب الحجازيين وهو الأفضل إن شاء الله ولا بأس عندي بالمشي خلفها وحيث شاء الماشي منها لأن الله عز وجل لم يحظر ذلك ولا رسوله ولا أعلم أحدا من العلماء كره ذلك ولا ذكر أن مشي الماشي خلف الجنازة يحبط أجره فيها ويكون كمن لم يشهدها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيع جنازة وصلى عليها كان له قيراط من الأجر ومن قعد حتى تدفن كان له قيراطان والقيراط كأحد ولم يخص الماشي خلفها من الماشي أمامها ومن عمل العلماء بالعراق والحجاز قرنا بعد قرن مما ذكرنا عنهم ما يدل على قولنا وبالله توفيقنا ومن استحب المشي أمامها فإنما ذلك عنده على الرجال لا على النساء روي أشهب عن مالك أنه سأله عن قول بن شهاب المشي خلف الجنازة من خطأ السنة أذاك على الرجال والنساء فقال إنما ذلك للرجال وكره أن يتقدم النساء أمام النعش أو أمام الرجال قال أبو عمر قد كره جماعة من العلماء شهود النساء الجنائز على كل حال وقد ذكرنا اختلاف العلماء في ذلك ووجوه أقوالهم في التمهيد والحمد لله‏.‏

وأما قوله في الحديث كانوا يمشون أمام الجنازة دليل على أن الأغلب من العمل في ذلك المشي لا الركوب وكذلك ينبغي لكل مستطيع على المشي مع الجنازة أن يمشي معها ولا يركب إلا من عذر قال بن شهاب ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة قط وروي عن ثوبان أنه رأى قوما يركبون في جنازة فقال أما يستحيون أن الملائكة لتمشي وأنتم على ظهور الدواب وعن بن عباس الراكب مع الجنازة كالجالس في بيته إلا أن تكون به علة وعن عبد الله بن رباح قال للماشي قيراطان وللراكب قيراط قال أبو عمر ليس الركوب بمحظور ولكن المشي لمن قدر عليه أفضل إن شاء الله والدليل على جواز الركوب - وإن كانت السنة المشي كالجمعة والعيدين - حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الراكب يسير خلف الجنازة الحديث حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سليمان وسفيان قالوا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن سعيد بن عبيد عن زياد بن جبير عن أبيه عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الراكب يسير خلف الجنازة والماشي يمشي منها حيث شاء‏.‏

باب النهي عن أن تتبع الجنازة بنار

488- مالك عن هشام بن عروة عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت لأهلها أجمروا ثيابي إذا مت ثم حنطوني ولا تذروا على كفني حناطا ولا تتبعوني بنار قال أبو عمر روي عن عائشة أنها أوصت لا تتبعوا جنازتي بمجمر فيه نار وقول عائشة مع قول أختها أسماء يدل على أنه لا بأس بتجمير ثياب الميت وأنه لا يجوز أن تتبع الجنازة بمجمر فيه نار‏.‏

489- مالك عن سعيد المقبري عن أبي هريرة انه نهى أن يتبع بعد موته بنار وكان مالك يكره ذلك قال أبو عمر قد روي حديث أبي هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار ولا أعلم بين العلماء خلافا في كراهة ذلك وروينا عن أبي سعيد الخدري وعمران بن حصين وأبي هريرة أنهم وصوا بأن لا يتبعوا بنار ولا نائحة ولا يجعل على قطيفة حمراء وأظن اتباع الجنائز بالنار كان من أفعالهم بالجاهلية نسخ بالإسلام والله أعلم وهو من فعل النصارى ولا ينبغي أن يتشبه بأفعالهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون أو قال لا يخضبون فخالفوهم وقال بعض العلماء لا تجعلوا آخر زادي إلى قبري نارا وفيما ذكرنا من إجماع العلماء فيه شفاء إن شاء الله‏.‏

وأما قول أسماء أجمروا ثيابي فهي السنة أن تجمر ثياب الميت وكان بن عمر يجمرها وترا وقد أجمعوا على الكافور في حنوط الميت وقد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته وأكثرهم يجيز فيه المسك وكره ذلك قوم والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الطيب المسك وكان بن عمر يتبع مغابن الميت بالمسك وقال هو أطيب طيبكم‏.‏

وقال مالك لا بأس بالمسك والعنبر في الحنوط قال بن القاسم يجعل الحنوط على جسد الميت وفيما بين الأكفان ولا يجعل من فوقه وقال إبراهيم النخعي يضع الحنوط على أعضاء السجود وجبهته وأنفه وركبتيه وصدور قدميه وقال أبو يوسف أجمع أصحابنا أن يوضع الحنوط في رأسه ولحيته ويوضع الكافور على مواضع السجود‏.‏

وقال الشافعي يحنط رأسه ولحيته ويرد الكافور على جميع جسده وثوبه الذي يدرج فيه أحب ذلك له هو قال المزني لا خلاف بين العلماء أنه يوضع الحنوط على مواضع السجود فإن فضل فرأسه ولحيته مع مساجده فإن فضل فمغابنه فإن اتسع الحنوط فحكم جميع جسده في القياس واحد إلا ما كان من عورته التي كان يسترها في حياته وإن عجز الكافور استعين بالذريرة ويسحق معها حتى يأتي على جميعه‏.‏

باب التكبير على الجنائز

490- مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات قد ذكرنا اسم النجاشي في التمهيد وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم كبير وذلك أنه علم بموته في اليوم الذي مات فيه على بعد ما بين الحجاز وأرض الحبشة ونعاه للناس في ذلك اليوم وكان ذلك فيما قال الواقدي وغيره من أهل السير في رجب سنة تسع من الهجرة وفيه إباحة الإشعار بالجنازة والإعلام بها ليجتمع إلى الصلاة عليها وفي ذلك رد قول من تأول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النعي أنه الإعلام بموت الميت للاجتماع إلى جنازته روي عن بن مسعود أنه قال لا تؤذنوا بي أحدا فإني أخشى أن يكون كنعي الجاهلية وعن سعيد بن المسيب أنه قال إذا أنا مت فلا تقولوا للناس مات سعيد حسبي من يبلغني إلى ربي وروي ذلك عن بن مسعود قال حسبي من يبلغني إلى حفرتي وعن علقمة أنه قال لا تؤذنوا بي أحدا فإن ذلك من النعي والنعي من أمر الجاهلية وروي عن طائفة من السلف مثل ذلك قد ذكرتهم والأخبار عنهم في التمهيد وروي عن بن عون قال قلت لإبراهيم أكان النعي يكره قال نعم قال وكان النعي أن الرجل يركب الدابة فيطوف ويقول أنعي فلانا قال بن عون وذكرنا عند بن سيرين أن شريحا قال لا تؤذنوا لجنازتي أحدا فقال إن شريحا كان يكتفي بذكره ولا أعلم بأسا أن يؤذن الرجل صديقه حميمة وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى على جنازة كان له من الأجر كذا وقوله عليه السلام لا يموت أحد من المسلمين فتصلي عليه أمة من الناس يبلغون ان يكونوا مائة فيشفعون له إلا شفعوا فيه وعنه عليه السلام ما من مسلم يصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب دليل على إباحة الإنذار والإشعار بالجنازة والاستكثار من ذلك للدعاء وإقامة السنة في الصلاة عليها وقد أجمعوا أن شهود الجنائز خير وفضل وعمل بر وأجمعوا أن الدعاء إلى الخير من الخير وكان أبو هريرة يمر بالمجالس فيقول إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته فإن قيل إن بن عمر كان إذا مات له ميت تحين غفلة الناس ثم خرج بجنازته قيل قد روى عنه خلاف ذلك في جنازة رافع بن خديج لما نعي له قال كيف تريدون أن تصنعوا له قالوا نحبسه حتى نرسل إلى قباء وإلى قريات حول المدينة ليشهدوا جنازته قال نعم ما رأيتم وفيه الخروج بالجنازة إلى المصلى وأن ذلك من سنة الصلاة عليها أن يخرج بها ليصلى عليها ويجتمع عليها وفيه الصلاة على الغائب وأكثر أهل العلم يقولون إن ذلك خصوص للنبي صلى الله عليه وسلم وأجاز بعضهم الصلاة على الغائب إذا كان في اليوم الذي دفن فيه أو قرب ذلك ودلائل الخصوص في هذه المسألة واضحة لا يجوز أن يستدل فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم غيره لأنه -والله أعلم- أحضر روح النجاشي بين يديه فصلى عليه أو رفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته وروي أن جبريل -عليه السلام- أتاه بروح جعفر أو بجنازته وقال قم فصل عليه وهذا كله وما كان مثله يدل على انه خصوص له لأنه لا يشركه في ذلك غيره وفيه الصف على الجنائز ولأن تكون صفوفا أولى من صف واحد فيه طول لحديث مالك بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب وقد روي عن مالك أن الجنائز إذا اجتمعت جعلت واحدة وراء واحدة وروي عنه أنها تجعل صفا واحدا ويقوم الإمام وسط الصف بعضهم عن يمينه وبعضهم عن يساره وبعضهم أمامه وروي عنه أنه استحب أن يكونوا سطرا واحدا ويكون أهل الفضل مما يلي الإمام قال أبو عمر ذلك كله واسع عند أصحابه وقد رويت هذه الوجوه كلها عن السلف رحمهم الله وفيه أن النجاشي ملك الحبشة مات مسلما ولولا ذلك ما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم على جنازته ذكر بن المبارك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن رجل من أهل صنعاء قال أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه وهو جالس في بيت على التراب وعليه خلقان فأنكرنا ذلك من حاله فلما رأى ما في وجوهنا قال إني أنشدكم بما يسركم أنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه وقتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك كأني أنظر إليه لأني كنت أرعى فيه إبلا لسيدي قال جعفر قلت له ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط وعليك هذه الأخلاق فقال إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى صلى الله عليه وسلم أن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله عز وجل تواضعا عند كل ما يحدث لهم من نعمة فلما أحدث الله لنا نصر نبينا -عليه السلام- أحدثت له هذا التواضع وقد ذكرنا في التمهيد حديث حميد عن أنس قال لما جاءت وفاة النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه صلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه وصلى عليه فقالوا صلى على علج مات فنزلت ‏(‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم‏)‏ آل عمران 199 وذكرنا في التمهيد أيضا حديث عطاء عن جابر قال لما مات النجاشي قال النبي صلى الله عليه وسلم مات اليوم عبد صالح فقوموا فصلوا على أصحمة فكنت في الصف الأول أو الثاني وحديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفنا خلفه فكبر عليه أربعا وما نحسب الجنازة إلا بين يديه وذكر سنيد عن حجاج عن بن جريج قال لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي طعن في ذلك المنافقون فنزلت هذه الآية ‏(‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله‏)‏ آل عمران وعبد الرزاق عن معمر عن قتادة مثله وفي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي إذ لم يصل عليه أحد من قومه وأمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصلاة عليه معه دليل واضح على تأكيد الصلاة على الجنائز وعلى أنه لا يجوز أن تترك الصلاة على مسلم مات ولا يجوز دفنه دون أن يصلى عليه لمن قدر على ذلك وعلى هذا جمهور علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من فقهاء الأمصار إلا أنهم اختلفوا في الصلاة على الشهداء وعلى البغاة وعلى أهل الأهواء لمعان مختلفة متباينة على ما نذكره في موضعه إن شاء الله وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على المسلمين المذنبين من أجل ذنوبهم وإن كانوا أصحاب كبائر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال صلوا على كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وإن كان في إسناده ضعف فما ذكرنا من الإجماع يشهد له ويصححه حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن قال حدثنا محمد بن القاسم بن شعبان قال حدثنا عيسى بن أحمد بن يحيى قال حدثنا نصر بن مروان بن مرزوق قال حدثنا جعفر بن هارون الكوفي أبو محمد قال حدثنا محمد بن الفضل بن عطية عن سالم الأفطس عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من قال لا إله إلا الله وقال طلحة بن عمرو قلت لعطاء وامرأة حبلى من زنا ماتت من النفاس ورجل غرق سكرانا فماتا أأصلي عليهما قال نعم قلت لم ولم يستحدثا توبة قال إن لهما حقوقهما بشهادة أن لا إله إلا الله وحسابهما على الله ألم تسمع إلى ما حكاه الله عن العبد الصالح ‏(‏قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون‏)‏ ‏[‏الشعراء 112‏]‏‏.‏

113 قال أبو عمر قوله ‏(‏إن لهما حقوقهما‏)‏ يوضح أن الصلاة على موتى المسلمين حق لهم على الأحياء واختلف العلماء في تسمية وجوب الصلاة على الجنائز فقال أكثرهم هي فرض على الكفاية يسقط وجوبها بمن حضرها عن من لم يحضرها وقال بعضهم هي سنة واجبة على الكفاية وفيه أن التكبير على الجنازة أربع لا غير وهو الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات منها حديث مالك هذا في الصلاة على النجاشي رواه جماعة أصحاب بن شهاب عنه بإسناد مالك ومعناه ومنها أنه صلى على قبر مسكينة فكبر أربعا ومنها أنه كبر على جنازة صلى عليها أربعا وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد وحديث زيد بن أرقم أنه كبر خمسا يدل على أن أكثر ما كان منه أربعا قال أبو عمر اختلف السلف من الصحابة - رضي الله عنهم - في التكبير على الجنازة من ثلاث تكبيرات إلى سبع وقد ذكرنا ذلك بالأسانيد عنهم في التمهيد وقد حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن وضاح قال حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم دحيم قال حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال حدثنا عبد الله بن الحارث عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى جاء موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعا ثم ثبت النبي -عليه السلام- على أربع حتى توفاه الله عز وجل قال أبو عمر اتفق الفقهاء أهل الفتوى بالأمصار على أن التكبير على الجنائز أربع لا زيادة على ما جاء في الآثار المسندة من نقل الآحاد الثقات وما سوى ذلك عندهم شذوذ لا يلتفت إليه اليوم ولا يعرج عليه فإذا كان السلف في مسألة على قولين أو أكثر ثم أجمع أهل عصر في آفاق المسلمين بعدهم على قول من أقاويلهم وجب الاحتمال عليه والوقوف عنده والرجوع إليه وهذه مسألة من مسائل الأصول ليس هذا موضع ذكر الحجة لها واختلف الفقهاء في الإمام يكبر على الجنازة خمسا فروى بن القاسم وبن وهب عن مالك لا يكبر معه الخامسة ولكنه لا يسلم إلا بسلامه وقال الحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن نحو ذلك‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا كبر الإمام خمسا قطع المأمومون بعد الأربع بسلام ولم ينتظروا تسليمه وقد قال بذلك بعض أصحاب مالك وقال زفر التكبير على الجنائز أربع فإن كبر الإمام خمسا فكبر معه وهو قول أحمد بن حنبل يكبر ما كبر إمامه على ما روى بن مسعود كبر ما كبر إمامك وروي عن الثوري رواية مثل قول زفر وروي عنه مثل قول أبي حنيفة وروي عنه أنه قد رجع إلى قول زفر قال الشافعي لا يكبر إلا أربعا فإن كبر الإمام خمسا فالمأموم بالخيار إن شاء سلم وقطع وإن شاء انتظر تسليم إمامه قال أبو عمر لا نعلم من فقهاء الأمصار أحدا قال يكبر الإمام خمسا إلا بن أبي ليلى فإنه قال يكبر الإمام خمسا على حديث زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان وعلي بن أبي طالب إلا أن عليا كان يكبر على أهل بدر ستا وربما كبر خمسا ويكبر على سائر الناس أربعا وقد ذكرنا أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يختلفون في التكبير على الجنائز من سبع إلى ثلاث وقد روي عن بعضهم تسع تكبيرات ثم انعقد الإجماع بعد ذلك على أربع قال أبو عمر روى بن حبيب في واضحته عن مطرف عن مالك عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه وكبر أربع تكبيرات وسلم وهذا غير معروف في هذا الحديث عن مالك من رواية مطرف وغيره وإنما أخذ الحديث من أصحاب بن شهاب مالك وغيره وكبر أربع تكبيرات ولم يذكر فيه أحد السلام غير بن حبيب إلا أنه لا خلاف علمته بين العلماء والصحابة والتابعين ومن بعدهم من الفقهاء في السلام على الجنازة وإنما اختلفوا هل هي واحدة أو اثنتان فجمهور أهل العلم من السلف والخلف على تسليمة واحدة وهو أحد قولي الشافعي وقالت طائفة منهم أبو حنيفة وأصحابه يسلم تسليمتين وهو قول الشعبي ورواية عن النخعي واختاره المزني قياسا على الصلاة لأنه لم يختلف قول الشافعي في تسليمتين من الصلاة واختلف قوله في التسليم من الجنازة فمرة قال واحدة ومرة قال اثنتين قال أبو عمر إنما جعل المزني ما لم يختلف فيه قول الشافعي حجة على ما اختلف فيه قوله ولم يجمعوا على التسليمتين في الصلوات المكتوبات فيصح القياس عليها لأن من سلم في الصلاة المكتوبة واحدة فقياسه أيضا أن يسلم في الصلاة على الجنازة واحدة وقد احتج بعض القائلين بالتسليمة الواحدة أن المسلمين قد أجمعوا عليها واختلفوا في الثانية فلا تثبت سنة مع الاختلاف وممن رويت عنه تسليمة واحدة في الجنازة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وبن أبي أوفى وواثلة بن الأسقع وجماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير وعطاء وجابر بن زيد وبن سيرين والحسن البصري ومكحول ورواية عن إبراهيم ذكرها عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال الإمام يسلم واحدة خفيفة وسنذكر الجهر بالسلام في الجنازة والإخفاء في باب جامع الصلاة على الجنائز إن شاء الله وذلك عند مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا صلى على الجنازة يسلم حتى يسمع من يليه قال أبو عمر السنة عندنا أن يسلم الإمام على الجنازة إذا كبر الرابعة ويسلم من سلامه وهو قول مالك وجمهور الفقهاء وقد روي عن مالك أنه قال لا بأس بتتميم الدعاء له بعد الرابعة والأول عليه الناس وبالله التوفيق‏.‏

491- مالك عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره أن مسكينة مرضت فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المساكين ويسأل عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ماتت فآذنوني بها فخرج بجنازتها ليلا وكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بالذي كان من شأنها فقال ألم آمركم أن تؤذنوني بها فقالوا يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلا ونوقظك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صف بالناس على قبرها وكبر أربع تكبيرات قال أبو عمر وصل هذا الحديث سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه ولم يختلف على مالك في إرساله في الموطأ وهذا حديث مسند متصل من وجوه قد ذكرت أكثرها في التمهيد وفيه من الفقه عيادة المريض وعيادة الرجال النساء المتجالات وعيادة الأشراف والخلفاء المهتدين بهدي الأنبياء للفقراء وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التواضع في عيادة الفقراء والمساكين وفيه الأسوة الحسنة صلى الله عليه وسلم وفيه جواز الإذن بالجنازة لقوله ألم آمركم أن تؤذنوني بها وذلك يرد قول من كره الإذن بالجنازة فاستحب أن لا يؤذن به أحد ولا يشعر بجنازته جار ولا غيره وقد ذكرنا في التمهيد جماعة ذهبوا إلى ذلك من السلف والحجة في السنة لا فيما خالفها وفيه أن عصيان الإنسان لأميره سلطانا كان أو غيره إذا أراد بعصيانه بره وتعظيمه وإكرامه أن ذلك لا يعد عليه ذنبا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينتقم ممن يعصيه إلا أن ينتهك حرمة من حرمات الله سبحانه فينتقم لله بها كما قالت عائشة - رضي الله عنها - وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما غاب عنه إلا أن يطلعه الله عليه وفيه الدفن بالليل وفيه الصلاة على القبر لمن لم يصل على الجنازة وهذا عند كل من أجازه ورآه وإنما هو بقرب ذلك على ما جاءت به الآثار عن السلف - رحمهم الله - في مثل ذلك وفيه أن التكبير على الجنائز أربع تكبيرات وفيه أن الصلاة على القبر كالصلاة على الجنازة سواء واختلف الفقهاء فيمن فاتته الصلاة على الجنازة فجاء وقد فرغ من الصلاة عليها أو جاء وقد دفنت فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما لا تعاد الصلاة على الجنازة ومن لم يدرك الصلاة مع الناس عليها لم يصل عليها ولا على القبر وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي والليث بن سعد قال بن القاسم قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر امرأة قال قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل قال أبو عمر ما رواه بن القاسم عن مالك في أنه لا يصلى على القبر هو تحصيل مذهبه عند أكثر أصحابه وذكر عبد الرزاق عن معمر قال كان الحسن إذا فاتته الصلاة على الجنازة لم يصل عليها وكان قتادة يصلي عليها وكان بن عمر إذا انتهى إلى جنازة قد صلي عليها دعا وانصرف‏.‏

وقال الشافعي وأصحابه من فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إن شاء وهو رأي عبد الله بن وهب صاحب مالك وبه يقول محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وداود بن علي وسائر أصحاب الحديث‏.‏

وقال أحمد بن حنبل رويت الصلاة على القبر عن النبي -عليه السلام- من ستة وجوه حسان كلها قال أبو عمر قد ذكرتها كلها بالأسانيد الجياد في التمهيد وذكرت أيضا ثلاثة أوجه حسان مسندة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فتمت تسعة وعن علي بن أبي طالب وقرظة بن كعب وبن مسعود وعائشة أم المؤمنين وأنس بن مالك وسلمان بن ربيعة وأبي موسى الأشعري أنهم أجازوا الصلاة على القبر وصلوا عليه وقد ذكرنا ذلك عنهم بالأسانيد ومن التابعين محمد بن سيرين وقتادة وأبو جمرة الضبعي وذكر الزبير بن بكار قال حدثنا يحيى بن محمد قال توفي الزبير بن هشام بن عروة بالعقيق في حياة أبيه فصلي عليه بالعقيق وأرسل إليه بالمدينة ليصلى عليه في البقيع ويدفن في البقيع قال أبو عمر أجمع العلماء الذين رأوا الصلاة علي القبر جائزة أنه لا يصلى على قبر إلا بقرب ما يدفن وأكثر ما قالوا في ذلك شهر‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يصلى على جنازة مرتين إلا أن يكون الذي صلى عليها غير وليها فيعيد وليها الصلاة عليها إن كانت لم تدفن وإن كانت قد دفنت أعادها على القبر وقال عيسى بن دينار فقيه أهل بلدنا من دفن ولم يصل عليه من قتيل أو ميت فإني أرى أن يصلي على قبره قال وقد بلغني ذلك عن عبد العزيز بن أبي سلمة وقد روى بن وهب عن مالك قال من فاتته الصلاة على الجنازة فليصل على القبر إذا كان قريبا اليوم والليلة كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة وقال عبد الملك بن حبيب فيمن نسي أن يصلى عليه حتى دفن أو فيمن دفنه يهودي أو نصراني دون أن يدفن ويصلى عليه ثم خشي عليه التغيير أنه يصلى على قبره وإن لم يخف عليه التغيير نبش وغسل وصلي عليه إن كان بحدثان ذلك وقال يحيى بن معين قلت ليحيى بن سعيد ترى الصلاة على القبر قال لا ولا أرى على من صلى عليه شيئا وليس الناس على هذا اليوم وأنا أكره شيئا يخالف الناس قال أبو عمر من صلى على قبر أو جنازة قد صلي عليها فمباح ذلك له لأن الله لم ينه عنه ولا رسوله ولا اتفق الجميع على كراهيته بل الآثار المسندة تجيز ذلك وعن جماعة من الصحابة إجازة ذلك وفعل الخير يجب ألا يمنع عنه إلا بدليل لا معارض له وبالله التوفيق وذكر مالك آخر هذا الباب أنه سأل بن شهاب عن الرجل يدرك بعض التكبير على الجنازة ويفوته بعضه فقال يقضي ما فاته من ذلك قال أبو عمر اختلف الفقهاء في الذي يفوته بعض التكبير على الجنائز هل يحرم في حين دخوله أو ينتظر تكبير إمامه فروى أشهب عن مالك أنه يكبر ولا ينتظر الإمام ليكبر بتكبيره وهو أحد قولي الشافعي رواه المزني وبه قال الليث والأوزاعي وأبو يوسف‏.‏

وقال أبو حنيفة ومحمد ينتظر الإمام حتى يكبر فيكبر بتكبيره فإذا سلم الإمام قضى ما عليه ورواه بن القاسم عن مالك والبويطي عن الشافعي واحتج بعض من قال هذا القول بقوله -عليه السلام- ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وروي فاقضوا إلا أنهم يقولون إذا كبر الإمام خمسا فلا يقضي إلا أربعا والحجة لرواية أشهب والمزني عن الشافعي أن التكبيرة الأولى بمنزلة الإحرام فينبغي أن يفعلها على كل حال ثم يقضي ما فاته بعد سلام إمامه لأن من فاتته ركعة من صلاته لم يقضها إلا بعد سلام إمامه واختلفوا إذا رفعت الجنازة فقال مالك والثوري يقضي ما فاته تكبيرا متتابعا ولا يدعو فيما بين التكبير وهو قول سعيد بن المسيب وبن سيرين والشعبي في رواية إبراهيم وحماد وعطاء في رواية بن جريج ورواه البويطي عن الشافعي‏.‏

وقال أبو حنيفة يقضي ما بقي عليه من التكبير إلا أنه قال يدعو للميت بين التكبير ورواه المزني عن الشافعي وعلى هذا جمهور العلماء بالعراق والحجاز في قضاء التكبير دون الدعاء لأن من قال تقضي تكبيرا متتابعا لا يدعو عنده بين التكبير وقد ذكر بن شعبان عن مالك الوجهين قال قال مالك من فاته بعض التكبير على الجنازة إن قضاه تسعا فحسن وإن دعا بين تكبيراته فحسن ومن استطاع الدعاء صنعه قال بن شعبان يريد دعاء مخفيا وذكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد بن سيرين قال يكبر ما أدرك ويقضي ما سبقه وقال الحسن يكبر ما أدرك ولا يقضي ما سبقه قال أبو عمر قد روي فيمن فاته بعض التكبير على الجنازة أنه لا يقضي عن بن عمر والحسن وربيعة والأوزاعي ورواه جابر الجعفي عن عطاء والشعبي وبه قال بن علية وقال لو كان التكبير يقضى ما رفع النعش حتى يقضي من فاته قال ومن قال يقضي تكبيرا متتابعا ولا يقضي الدعاء فقد ترك ما يعلم من سنة الصلاة على الجنائز قال وإذا رفع الميت فلمن يدعي قال أبو عمر ليس فيما ذكره بن علية مقنع من الحجة‏.‏